سورة الكهف - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)} [الكهف: 18/ 32- 36].
ظاهر هذا المثل أنه وصف لأمر واقع موجود، روي في ذلك أنه كان هناك أخوان من بني إسرائيل، ورثا أربعة آلاف دينار، فصنع أحدهما بماله ما ذكر وهو بستانان، واشترى عبيدا وتزوج وأثرى، وأنفق الآخر ماله في طاعة الله تعالى حتى افتقر، والتقيا، ففخر الغني ووبّخ المؤمن، فجرت بينهما هذه المحاورة.
والمقصود بالمثل طائفتان، إذ الرجل الكافر صاحب الجنتين هو بإزاء متجبري قريش أو بني تميم، والرجل المؤمن المقر بالربوبية هو بإزاء بلال وعمار وصهيب وأقرانهم.
وتصوير المثل كما حكى القرآن: واضرب أيها الرسول مثلا لهؤلاء المشركين بالله الذين طلبوا منك طرد المؤمنين من مجلسك، ذلك المثل هو حال رجلين، جعل الله لأحدهما جنتين، أي بستانين من أعناب، محاطين بنخيل، وفي وسطهما الزروع والأشجار المثمرة.
{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها} أي أخرجت ثمارها، ولم تنقص منه شيئا في كل عام.
{وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً} أي وشققنا وسط الجنتين نهرا، تتفرع عنه عدة جداول، لسقي جميع الجوانب.
وكان لصاحب البستانين أنواع أخرى من الثمار والأموال النقدية والعينية التجارية، فقال لصاحبه المؤمن الفقير، وهو يجادله ويخاصمه ويحاوره الحديث، ويفتخر عليه: أنا أكثر منك ثروة، وأعز نفرا، أي أكثر خدما وحشما وولدا، وأقوى عشيرة ورهطا يدافعون عني.
ودخل هذا الثري بستانه المتعدد البقاع والجنبات، فقال اغترارا منه، وظلما وكفرا واستكبارا: ما أظن أن تفنى هذه الجنة (البستان) أبدا، وما أظن أن يوم القيامة آت، وكان في الحالين مخطئا ظالما لنفسه، إذ قرر عدم فناء بستانه، وأنكر وجود القيامة. وأفرد كلمة الجنة من حيث الوجود، إذ لا يدخلهما معا في وقت واحد، وظلمه لنفسه: كفره وعقائده الفاسدة في الشك في البعث.
ثم أقسم هذا المترف على أنه إذا رجع إلى ربه- على سبيل الافتراض- ليجدن في الآخرة عند ربه خيرا وأحسن من حظ الدنيا أو منقلبا، أي مرجعا وعاقبة حسنة، تمنيا على الله، وادعاء لكرامته ومكانته عنده، على الزعم المغلوط: أن من كان حسن الحال في الدنيا، فهو حسن الحال في الآخرة، كأنه من شدة العجب ببستانه وسروره به، أفرط في وصفه، ثم قاس حال الآخرة على الدنيا، وظن أنه في تقلبه بالعيش الهنيء في الدنيا، لم يكن إلا لكرامة يستوجبها في نفسه، فإن كان ثمّ رجوع أو بعث كما يزعم صاحبه المؤمن، فسيكون حاله أحسن وأفضل، وهذا القول من هذا العاصي لم يقصد به الحقيقة، بل قصد الاستخفاف على جهة التصميم على التكذيب.
غير أن موقف هذا المغرور الكافر موقف خاسر، وتصور ساذج، فإن موقفه وحاله آيل في الواقع إلى الدمار والإفلاس، لكفرانه بنعم الله، وعصيانه ربه، وهذا شأن كل غني مغرور، مفتون بماله، لا يحترم أحدا إلا إذا كان غنيا مثله، وتراه يتقلب في المعاصي والملاهي والمنكرات والنوادي والخدينات، ويرائي الناس ويتظاهر متفاخرا بماله وقصوره، ومفروشات منزله، ويتطاول على الآخرين، ولكنه في النهاية من الأخسرين أعمالا، ومن الهالكين.
موقف المؤمن الواعي من صاحب الجنتين:
الجدال والنقاش قائم في الدنيا دائما على قدم وساق بين الكافر والمؤمن، وبين العاصي الفاجر والمستقيم الصالح، الأول يغتر بماله ونفسه ودنياه، والثاني يستمسك بإيمانه وينظر لمستقبل عمره، ويدرك فناء الدنيا مهما عظمت، ويتأمل الخير فيما عند ربه، وهكذا كان حال المؤمن في مواجهة الكافر صاحب الجنتين (البستانين) وذي الثراء الواسع، حكى القرآن الكريم هذا اللون من الجدل الهادىء الصادر عن غاية الإيمان والحكمة والعقل:


{قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)} [الكهف: 18/ 37- 44].
لقد أجاب الرجل المؤمن صاحبه المفتون ببساتينه وثرواته حينما كان يحاوره، واعظا له، وزاجرا عما هو فيه من الكفر والاغترار، فقال: أكفرت بمن خلقك في أصل الخلقة من تراب، لأن خلق آدم أبي البشر من تراب خلق لذريته، وكذلك الغذاء من النبات، وغذاء النبات من الماء والتراب، ثم يتحول هذا الغذاء دما، يتحول بعضه إلى نطفة، تكون وسيلة للإنجاب، ثم خلق البشر السوي التام الأعضاء.
لكني أنا لا أقول بمقالتك، بل أقر لله بالوحدانية والربوبية، ولا أشرك به أحدا، بل هو الله المعبود وحده لا شريك له.
وهلا إذا أعجبتك جنتك (بستانك) حين دخلتها، قلت: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، أي الأمر ما شاء الله، والكائن: ما قدره الله.
أتستصغرني إذ كنت أقل منك مالا وثروة، وأولادا وعشيرة، في هذه الدنيا الفانية، فإني أتوقع انقلاب الحال في الآخرة، وأرجو أن يعطيني الله خيرا من جنتك (بستانك) في الدار الآخرة، ويرسل على جنتك في الدنيا حسبانا من السماء، أي عذابا كالبرد الشديد والصقيع أو الطوفان أو الصاعقة المحرقة، فتصبح جنتك خالية من أي شجر أو نبات، وخاوية على عروشها، أو تصير صعيدا (أي وجه الأرض) زلقا: لا يثبت فيها قدم، يعني أن تذهب الأشجار والنباتات، وتبقى أرضا يابسة، قد ذهبت منافعها، حتى منفعة المشي، فهي وحل لا تنبت، ولا تثبت فيها قدم أو يغور ماؤها ويذهب، ولن تتمكن من طلبه وإعادته مرة أخرى.
ثم أخبر الله تعالى بما حل من العذاب بحال هذا الجاحد الممثّل به، وصفة هذا العذاب: أنه أحاط العذاب والفساد والاستئصال بثمار البساتين ونزلت الجائحة بالأموال، فدمّرتها، فأصبح ذلك الرجل المفتون بها نادما متحسرا على ضياع نفقته التي أنفقها عليها، وتمنى أن لم يكن قد أشرك بربه أحدا، وصارت جنته خاوية على عروشها، أي سقطت عرائشها على الأرض.
ولم يجد أحدا يناصره ويؤازره من عشيرة أو ولد، كما كان يفتخر ويتباهى، ولم يعد منتصرا، أي ممتنعا بقوته عن انتقام الله تعالى منه.
وفي هذه الحال من الشدة والمحق والمحنة، تكون النصرة لله وحده، ويؤمن فيها البرّ والفاجر، ويعود كل إنسان طوعا أو كرها إلى الله وحده، وإلى موالاته والخضوع له، حينما وقع العذاب. فقوله سبحانه: {هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} أي حينئذ يكون السلطان والملك والنصرة والحكم لله الإله الحق المبين.
والله سبحانه هو خير ثوابا وخير عقبا، أي خير جزاء، وأفضل عاقبة لأوليائه المؤمنين، فينصرهم ويعوضهم عما فقدوه في دار الدنيا، وتكون الأعمال الخالصة لله ذات ثواب عظيم، وأثر طيب أو عاقبة حميدة رشيدة، كلها خير من سابقاتها في الدنيا. وهذا دليل واضح على أن الله يجزي بالحسنة خيرا منها، ويضاعف الله كرما وفضلا ثواب الحسنة إلى ما شاء سبحانه، مما يحمل كل عاقل على الطمع في فضل الله وإحسانه، والإقبال على طاعته ومرضاته لأن ما عند الله خير وأبقى.
صفة الدنيا الفانية:
جرت العادة أن تكون الاستعدادات للأحوال المؤقتة بسيطة وقليلة، وأن تكون الاستعدادات للأوضاع الدائمة والخطيرة كثيرة ومتنوعة، وهكذا ينبغي النظر باستمرار لحال الدنيا والآخرة لأن الدنيا فانية منتهية، والآخرة باقية خالدة، فما على المؤمن إلا أن يتخذ الدنيا جسرا للآخرة، وأن يتزود بالأعمال الصالحة، ويقدم المزيد من الخير لمستقبله، حتى يحقق لنفسه السعادة والنجاة، لذا زهّد القرآن الكريم بالدنيا، ورغّب في نعيم الآخرة الخالد، فقال الله تعالى:


{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46)} [الكهف: 18- 45- 46].
اذكر أيها النبي مثلا لأهل مكة وأمثالهم الذين افتخروا بأموالهم وأتباعهم على فقراء المسلمين، يبين ذلك المثل أو الصفة زوال الدنيا وما فيها، والمراد حياة الإنسان بما يتعلق من نعم وثروة، فإن الدنيا بعد الخضرة والبهجة تصبح عابسة لا جمال فيها ولا زهو، إنها في تحولها وتبدلها تشبه حال نبات سقي بماء السماء، واختلط النبات بعضه ببعض، بسبب الماء، وصار أخضر جميلا، ثم تحول بعد الخضرة فأصبح هشيما، أي يابسا، تذروه الرياح، أي تفرقه وتنثره ذات اليمين وذات الشمال.
والله قادر على كل شيء من الإنشاء والإحياء، ثم الدمار والإفناء، واليبس والهلاك، فلا ينبغي لعاقل أن يغتر بإقبال الدنيا أو يتفاخر بها، وعليه أن ينظر إلى مآلها ونهايتها الحتمية.
ومعنى هذا المثل تشبيه حال المرء في حياته وماله وعزته، وزهوه وبطره بالنبات الذي له خضرة ونضرة، بسبب المطر النازل، ثم يعود بعد ذلك هشيما متبددا، ويصير إلى عدم. فمن كان له عمل صالح يبقى في الآخرة، فهو الفائز، فكأن الحياة بمثابة الماء، والخضرة والنضارة بمنزلة النعيم والعزة ونحوه. ويدل هذا المثل على سرعة زوال الدنيا وفنائها.
ثم أخبر الله عن حقيقة المال والأولاد، فذكر أن الأموال والبنين والبنات هي من زينة الحياة الدنيا، وليست من زينة الآخرة الدائمة، فهي سريعة الفناء والانقراض، فلا ينبغي لعاقل أو متأمل الاغترار بها والتفاخر بمظاهرها، ولا يصح للناس أن يتبعوا أنفسهم زينة الدنيا وجمالها، وعليهم أن ينتفعوا بها مجرد انتفاع، دون تعلق نفس وإيثار، أو تعظيم وتفضيل، لأن كل ذلك إلى فناء.
والباقيات الصالحات خير، أي إن أعمال الخير وأفعال الطاعة، كالصلاة والصيام والصدقة والجهاد في سبيل الله، ومساعدة المحتاجين، وذكر الله: أفضل ثوابا، وأعظم قربة عند الله، وأبقى أثرا، لأن ثوابها عائد على صاحبها، وهي خير أملا، حيث ينال صاحبها في الآخرة كل ما كان يؤمله في الدنيا.
فسر ابن عباس وغيره الباقيات الصالحات بأنها الصلوات الخمس، وفسرها جمهور المفسرين بأنها الكلمات المأثور فضلها وهي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقال ذلك أيضا ابن عباس. ورجح الطبري والقرطبي ما قاله ابن عباس في رواية ثالثة: الباقيات الصالحات: كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة.
وقول الله سبحانه: {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا} معناه: صاحبها ينتظر الثواب، وينبسط أمله على خير من حال ذي المال والبنين، ودون أن يعمل عملا صالحا.
ويكون المقصود من الآية عقد مقارنة بين الزائل والدائم، أما الزائل فلا قرار له، وأما الدائم فهو الثابت بنحو مستمر، والاستمرار إنما يكون ببقاء الأثر، والعمل الصالح الشامل للأقوال والأفعال الطيبة المرضية لله تعالى: هو الذي يحقق دوام الأثر، وفضيلة الثواب، وزهرة الآمال اليانعة التي يحلم بها الإنسان، وتحقق له دوام السعادة، ومتعة الحياة، والجمال الذي لا يزول، والفضل الإلهي الشامل، وجنة الخلد اليانعة، التي غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
مشاهد القيامة الحاسمة:
مهما تعرض الإنسان للأحداث والمحن الدنيوية، فإنها تكون هينة صغيرة أمام أحداث القيامة الرهيبة، لأن أحداث الدنيا يعقبها دائما أو غالبا انفراج وزوال للكروب، أما أحداث الآخرة، فهي حاسمة شاملة لا أمل فيها بالتغير ولا الانفراج أو احتمال الزوال، لذا تكاد النفس أو الروح تنخلع من الجسد، ويشتد الضيق والألم، حينما يشاهد المرء ما يتعرض له الكون من تدمير وخراب، ويتسلم صحيفة عمله التي هي بمثابة الحكم القضائي المبرم الذي يتلقاه المتهم في محاكم الدنيا، ثم يزجّ به في غياهب السجون، لتنفيذ مقتضى ذلك الحكم. قال الله تعالى واصفا هذه المشاهد المفزعة والمخيفة:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8